بعد انتهاء الحرب السورية، سيدرس الباحثون بطريقة معمقة ما جرى خلالها. سيذكر بعضهم المجازر التي نظمها النظام السوري في درعا وحمص وحلب، فيما البعض الآخر سيتخصص في دراسة نشوء وإنحدار “الدولة الإسلامية” والحركات الارهابية، لكن الجميع سيعرج على الاتفاقات السياسية والقمم الدولية والإقليمية المعنية بالشأن السوري. من مؤتمرات جنيف إلى قمم استانة، مروراً بلقاءات سوتشي وقرارات الأمم المتحدة، ووصولاً إلى قمة اسطنبول الرباعية المعقودة في 27 تشرين الأول، سوف يذكر التاريخ الجهد الدولي المبذول لوقف الحرب السورية والانتهاء منها.
تطلعات السوريين.. الحرب والدعاية
يشكو بعض أبناء سوريا، وخاصة من يوالون المعارضة، أن كل الجهد الدولي لم يساهم في تحقيق تطلعاتهم السياسي. فيما يحدد أنصار النظام السوري موقفهم من هذه النشاطات الدولية تبعاً لنتائجها ومصالحهم في البقاء والفوز في الحرب. إن صبت نتائج أي لقاء دولي في مصلحتهم أشادوا به وبالمجهود الدولي، أما وإن كان لا يتماشى مع مصالحهم فيعتبرونه تدخلاً سافراً في شؤونهم. غير أن الطرفين، لا يتركان مناسبة إلا ويشددان على أن كل اللقاءات الدولية ناقصة إن لم تأخذ بعين الاعتبار تطلعات السوريين.
تختلف الأطراف السورية المتقاتلة حول تحديد مفهوم “تطلعات السوريين”. أهم من بقوا في سوريا، أم من غادروها؟ أهم من يعارضون النظام السوري، أم من يوالوه؟ هل تشكل الفصائل الكردية وتنظيم “داعش” جزءً صريحاً من السوريين، وهل تُعد تطلعاتهم جزءً من تطلعات الشعب السوري أم لا؟
أمام تشعب السؤال وغياب تحديد واضح لمن يمثل السوريين وتطلعاتهم، يمارس كل طرف أكثر ما يجيده: الحرب والدعاية. أثبتت الحرب السورية أن الحق الطبيعي للشعوب مبدأ هجين، وتطلعاتهم مفهوم مطاط. بينما تحدد الحرب والقوة في الميدان من يمثل الشعب أكثر من غيره، ومن له “الحق” والشرعية للتحدث باسمهم، وبالتالي تحقيق تطلعاتهم بالطريقة التي يريدها. لا مكان للخسارين على مقاعد طاولة المفاوضات، إنما مكانهم، إجمالاً، عليها.
أما الدعاية، فتهدف إلى شحذ الهمم وتسويق الأفكار والسياسات، كما لتحديد مكامن الهوية السورية. دعاية النظام تقول التالي: السوري “الحقيقي” هو من يحارب الإرهاب ويدعم دولته، ويحافظ على وحدة أراضيه ضد مشاريع التقسيم والاحتلال. بالإضافة إلى سلسلة لا تنتهي من المؤامرات المتخايلة التي تُبث كيفما كان. أما الدعاية المضادة، فتقول شيئاً آخراً: السوري “الحقيقي” هو من ينتصر للحرية، ومن يحمل لواء الثورة، ويحرر سوريا من أغلال العبودية لآل الأسد.
في بداية الحرب السورية تقدمت دعاية المعارضة السورية في الإعلام بشكل متوازٍ مع فصائلها على الأرض. بين العام 2011 والعام الذي تلاه، كان كل تصريح دولي لا يأخذ بعين الإعتبار تغيير النظام السوري، بمثابة بُعد عن الحقيقة وطعناً في تطلعات الشعب السوري. لكن ما لبثت أن ظهرت “داعش” وتنفس النظام السوري الصعداء عندما دخلت جيوش ومليشيات موسكو وطهران على خط الدفاع عن بشار الأسد. غلبت دعاية النظام السوري دعاية معارضيه، وتفوق، مع حلفاءه، في الميدان. باتت التصاريح الدولية التي تصر على رحيل الأسد أضغاث أحلام، وبُعد عن الواقع. إن كل ما يحكى في الإعلام ويمارس في ميدان الحرب اليوم لا يتخطى محاولة إنقاذ هذه المنطقة أو تلك من جنازير دبابات الجيش السوري.
مع دخول روسيا وإيران وتركيا والولايات المتحدة الأميركية في الصراع السوري بشكل مباشر، باتت الحرب السورية مدوّلة أكثر مما كانت. ازدادت الهوة بين الداخل والخارج، وتحوّلت قرارات المؤتمرات والقمم، في الكثير من الأحيان، إلى حبر على ورق. لكن هذا الأمر لم يعنِ توقف المجهود الدولي عن المبادرة، أو انتفاء تأثيره في الحرب السورية.
المراحل الثلاث للمجهود الدولي
طوال السنوات السبع للحرب السورية، لعبت القوى الإقليمية والدولية دوراً مؤثراً في مسار تطورها. كانت الأمم المتحدة الأقل تأثيراً في الأزمة، بالرغم من إصدارها قرارات عدة وبيانات متلاحقة في شأنها. في المقابل، تزايد دور روسيا في مسار العملية السياسية للأزمة السورية على حساب الدور الإيراني المتراجع، وحافظت كل من تركيا والولايات المتحدة على أدوراهما المؤثرة. فيما بقيت الأدوار الأوروبية محدودة كما كانت في البداية وحتى اليوم.
مر مضمون المجهود الدولي في ثلاثة مراحل أساسية. شهد الأول تقدماً للمعارضة السورية، وفي الثاني مفاوضات بين أطراف النزاع، وفي الثالث تقدماً للحكم السوري والموالين له على أعداءهم.
في المرحلة الأولى، تأسس، برعاية دولية، المجلس الوطني السوري المعارض عام 2011، ثم تبعه، في شهر حزيران من العام التالي، مؤتمر جنيف الأول الذي نص على تشكيل هيئة حكم انتقالية وكتابة دستور جديد. ثم ما لبث أن أطلق، بعد أشهر قليلة، الائتلاف الوطني السوري الذي أسس حكومة سورية مؤقتة في 18 آذار من العام 2013. حتى ذلك التاريخ، كانت المعارضة وميليشياتها والدول الراعية لها في أوج تقدمها، لكنها دخلت، بعد هذا التاريخ، في سلسلة من المفاوضات مع النظام السوري.
شهد العام 2013 أول مفاوضات غير مباشرة بين المعارضة والنظام السوري في مؤتمر جنيف الثاني، ثم أكد بيان قمة فيينا في 14 تشرين الثاني 2015 على ضرورة وقف إطلاق النار ووضع جدول زمني لتشكيل حكومة انتقالية. بعد أشهر قليلة، أعلن في مؤتمر الرياض الأول عن تأسيس الهيئة العليا للمفاوضات، تبعها مؤتمر جنيف الثالث الذي فشل في تحقيق أي نتيجة تذكر.
أما المرحلة الثالثة التي بدأت عام 2017، فشهدت تدويلاً واضحاً للأزمة السورية. أنشأ مؤتمر أستانا الأول في 23 كانون الثاني آلية ثلاثية (روسية – تركية – إيرانية) لمراقبة تنفيذ وقف إطلاق النار، تبعه مؤتمراً ثانياً أقر تشكيل مجموعة عمل ثلاثية لمراقبة وقف الأعمال القتالية وتشكيل آلية لتبادل المعتقلين. ثم نجح مؤتمر جنيف الرابع في الاتفاق على وضع جدول زمني لمسودة الدستور وإجراء انتخابات ومكافحة الإرهاب. كما تبعها كلها مؤتمر سوتشي، وأربعة لقاءات في جنيف وخمسة في استانا بين العام 2017 والعام 2018، أقرت، بالتتابع، تحديداً واضحاً لمناطق خفض التوتر ونقل مقاتلين من مناطق إلى أخرى. ثم كانت القمة الرباعية بين تركيا وفرنسا وروسيا وبريطانيا، لبحث الملف السوري.
قمة اسطنبول الرباعية: وحدة الدولة ودستور جديد
في 27 تشرين الأول 2018، استضافت إسطنبول قمة رباعية لبحث الملف السوري حضرها كل من رؤساء الدول الأربعة المعنية بها، كما ممثلون عن المجموعات المصغرة المنبثقة عن مؤتمرات أستانا. شهدت القمة تغيباً لإيران، التي لم تذكر في أي من أحاديث رؤساء الدول بشكل إيجابي أو في البيان الختامي. كما غابت الولايات المتحدة الأميركية عن القمة.
خرجت القمة بالكثير من المقررات المهمة، والتي سوف يكون لها أثر جمّ في المستقبل القريب، خاصة أنها ضمت أطرافاً أساسية على نقيض في الحرب السورية. أعلن البيان الختامي لقمة اسطنبول الرباعية التمسك بسيادة واستقلال ووحدة الأراضي السورية ورفض الأجندات الانفصالية التي تهدد الأمن القومي للدول المجاورة، في إشارة ضمنية إلى الفصائل الكردية المعادية لتركيا. كما تعهدت الدول الأربعة دعم وتشجيع حل سياسي يحقق السلام والاستقرار، وزيادة التعاون والتنسيق بين جميع المبادرات الدولية الرامية إلى إيجاد حل مستدام وثابت وفعال للأزمة.
بالإضافة إلى ذلك، تعهدت كل من تركيا وروسيا وفرنسا وألمانيا تحقيق وقف إطلاق نار شامل، ومواصلة العمل المشترك ضد الجماعات التي صنفها مجلس الأمن الدولي بالمنظمات الإرهابية، في إشارة إلى تنظيمي داعش وجبهة النصرة والجماعات والأفراد المرتبطة بهما. كم أشار البيان الختامي للقمة إلى أهمية تهيئة الظروف في عموم سوريا للعودة الآمنة والطوعية للنازحين واللاجئين إلى أماكنهم الأصلية، وحماية العائدين من الصراع المسلح، أو الاضطهاد السياسي والاعتقال التعسفي. بالإضافة إلى أمور أخرى، كرفض استخدام الأسلحة الكيميائية، ومناشدة المجتمع الدولي زيادة المساعدات للشعب السوري.[1]
أما أبرز ما جاء في القمة، فهو دعوة واضحة لتشكيل لجنة لصياغة الدستور السوري الجديد قبل نهاية العام 2018 بهدف تهيئة الأرضية لانتخابات حرة ونزيهة برعاية أممية يشارك فيها جميع السوريون بمن فيهم المغتربون، وتلبي أعلى معايير الشفافية والشرعية. وهي اللجنة التي كان قد طرح تشكيلها مبعوث الأمم المتحدة بسوريا ستيفان دى ميستورا، والتي اعتبرها “لحظة الحقيقة” لعملية سياسية ذات مصداقية[2].
إن الدعم الدولي لهذه المبادرة التي ستضم أفراداً من الموالين والمعارضين للنظام السوري، قد تنتج عنها دستوراً جديداً، أو تعديلاً على الدستور الحالي. إن مطلب المعارضة بالانتهاء من بشار الأسد قد بات سراباً، وجلّ ما يمكنها القيام به هو الدخول كشريك في التسوية النهائية، وتحصيل بعض المطالب العامة فقط.
تبدو سوريا، نهاية العام 2018، أقرب إلى الانتهاء من الحرب من أي يوم مضى. المراحل الثلاث للجهود الدولية، والحرب السورية التي بدأت تنخمد نارها، لا تشير إلا إلى نهاية قريبة لها، وبداية مرحلة أخرى تحت عنوان إعادة الإعمار.
[1] Daily Sabah (2018), Istanbul summit calls for Syrian constitutional committee by year-end, retrieved from: https://www.dailysabah.com/diplomacy/2018/10/27/istanbul-summit-calls-for-syrian-constitutional-committee-by-year-end
[2] Reuters (2018), UN sees “moment of truth” for Syria political process, retrieved from: https://af.reuters.com/article/commoditiesNews/idAFL8N1VQ2RG