تشكل ليبيا بالنسبة لتركيا أرضاً استثنائية وخصبة لمد النفوذ شمال القارة الأفريقية. الاستثناء الليبي يعود لإنغلاق كافة البلاد الممتدة من مصر إلى المغرب أمام الطموحات الإقليمية لأنقرة. ترى الحكومة المصرية الدولة التركية معادية لها، فيما لا نفوذ كبير لأنقرة في كل من تونس والجزائر والرباط. لذلك، تبقى طرابلس، المكان الوحيد الذي يستطيع فيه الذئب التركي مد أنامله شمال القارة الأفريقية، كما التنافس مع السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر على النفوذ في البلاد التي تمزقها الحرب الداخلية بشكل حقيقي منذ العام 2014.
ليبيا في التجربة التاريخية عند الأتراك
لم تحظَ الولايات الليبية على أهمية حقيقية خلال الزمن العثماني، بل كانت مجرد طريق يصل مدن حوض النيل بشمال المغرب العربي. الاستثناء الوحيد على ذلك كان الحرب العثمانية – الإيطالية عامي 1911 و 1912، عندما راحت إيطاليا تدك المدن الليبية من البحر، وتهاجم قوات أنور باشا العثماني المرابطة في الصحراء وأطراف المدن الكبرى. حتى مصطفى كمال (أتاتورك) شارك بهذه الحرب كضابط عثماني تم إرساله لقيادة بعض الفرق العثمانية والصحراوية المحلية ضد الغزو الإيطالي[1].
طوال سنة ونيف من المعارك بين العثمانيين والإيطاليين، بدأ نجم مصطفى كمال بالبروز، فمهد الطريق أمامه لتسلق سلم القيادة العسكرية لاحقاً. إلا أن الحرب العثمانية – الإيطالية انتهت بفشل ذريع لإسطنبول، مع توقيع معاهدة “أوشي” التي نصت على انسحاب العثمانيين من ليبيا. لم يكن الفشل العسكري للسلطنة في ليبيا نابع من ترهل جسد “الرجل المريض” فقط، أو بسبب قوة الدولة الإيطالية الصاعدة، إنما بسبب إندلاع “الإنتفاضة البلقانية” ضد العثمانيين عام 1912، وتشكيلها خطراً جسيماً على وجود بني عثمان في القارة الأوروبية، فكان التفرغ لهذه الحرب التي أعطتها إسطنبول أولوية قصوى على حساب المعارك الثانوية الدائرة على الشواطئ الصحراوية الليبية[2].
في التجربة التاريخية عند الأتراك، تشكل ليبيا المكان الذي هُزموا فيه، كما المكان الذي تسيّدوا عليه لفترة طويلة من الزمن، وحدثوه إدارياً واقتصادياً. أما في الزمن الحاضر، فتشكل ليبيا وأزمتها الممتدة من تاريخ الثورة على معمر القذافي عام 2011 المتغيّر الحقيقي الذي نقل تركيا من سياسة خارجية إلى أخرى مختلفة كلياً.
حرب ليبيا كنقطة فصل بين سياسة خارجية وأخرى
قبل ذلك التاريخ، كانت السياسة الخارجية لحكومات حزب “العدالة والتنمية” الحاكم في أنقرة مسالمة، ومؤمنة بسياسة “صفر مشاكل مع الجيران” التي خطها وزير الخارجية الأسبق أحمد داوود أوغلو. نُفذت هذه السياسة منذ العام 2002 إلى العام 2011، حيث راحت أنقرة تسوّق لنفسها أمام الدول العظمى كقوة إقليمية يمكنها قيادة العالم العربي والإسلام نحو الحداثة والتنمية. كما سعت للتصالح مع جيرانها الأرمن والعرب واليونانيين والقبارصة، ومد نفوذها بينهم من دون استخدام فوهات المدافع، إنما عبر “القوة الناعمة” القائمة على الاقتصاد والتنمية والمساعدات الإنسانية والشؤون الدينية، إلخ.
مع اندلاع الثورة الليبية، تغيير كل شيء، حيث أقر البرلمان التركي في شهر آذار من العام 2011 للقوات العسكرية التركية الحق بالتدخل المباشر في الأزمة الليبية[3]، فراحت طائرات أنقرة تقصف قوات معمر القذافي في طرابلس بالإشتراك مع قوات حلف شمال الأطلسي، كما أرسلت أنقرة مستشاريها العسكريين إلى الميدان الليبي[4]، ودربت آلاف عناصر الجيش والشرطة المحلية، وسلحت الميليشيات والقبائل والجيش[5]…
تشكل الأزمة الليبية نقطة الفصل بين تركيا مسالمة واستثنائية وأخرى عدائية وعادية. انتهت سياسة “صفر مشاكل مع الجيران” مع بداية الثورة الليبية، ومن ثم دُفنت مع استعار الحرب السورية. ما عادت تركيا قوة إقليمية تسعى لتثبيت الاستقرار والأمن في محيطها كما كانت بين عامي 2002 و2011، إنما باتت دولة يهمها مد نفوذها في الدول المحيطة، حتى وإن اضطرها ذلك استخدام القوة والتقاتل بالوساطة مع دول إقليمية أخرى.
تركيا تدعم الشرعية في ليبيا
في ليبيا اليوم عدد لا بأس به من الميليشيات والفصائل التي تسيطر على الأحياء والمدن والمدى الصحراوي، إلا أن الصراع الحقيقي في تلك البلاد قائم بين قوتين أساسيتين: قوات اللواء المنشق خليفة حفتر، وقوات حكومة الوفاق الوطني التي يرأسها فايز السرّاج.
تسيطر قوات حفتر على شرق البلاد وجنوبها، وهو مدعوم من قبل السعودية والإمارات بشكل أساسي، وبدرجة أقل من مصر وفرنسا، ويقود عدة هجومات على العاصمة طرابلس بهدف السيطرة عليها. أما قوات حكومة السرّاج فحاصلة على شرعية دولية، وهي مدعومة بشكل أساسي من تركيا وإيطاليا، وتسيطر على العاصمة ومدينة مصراتة والغرب الليبي.
في السابع من شهر تموز الحالي زار السرّاج الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أنقرة متشكراً دعمها الكبير لحكومته وقواته العسكرية لتأمين استقرار البلاد وتحقيق أمنها[6]. هذا وكان أردوغان قد أعلن علانية أن حكومة بلاده تمد الشرعية الليبية بالسلاح لمواجهة الخارجين عن الشرعية[7]. أما حفتر فبات منذ ذلك التاريخ يتهجم على تركيا بشكل صريح، خاصة بعدما تزايدت الانتقادات له، حيث وصفه وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو “بفاقد للإنسانية”، ووزير الدفاع خلوصي آكار الذي هدده بانتقام عسكري قاسٍ في حال التعرض لمصالح أنقرة في ليبيا[8].
تتقاتل الفصائل الموالية للحكومة ولحفتر بشكل شبه يومي، فيما تركيا تدعم الشرعية مقابل دعم “أعداءها” لقوات حفتر. هي حرب بالواسطة بين القوى الإقليمية، وتؤثر على الليبيين بشكل أساسي أكثر من تأثيرها على الدول الراعية للأطراف المقاتلة.
المحاور الثلات وتراجع الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط
لا يشذ موقع تركيا في هذه الحرب عن موقعها من الصراعات الأخرى في الشرق الأوسط. إن “أعداءها” الإقليميين هم السعودية والإمارات العربية المتحدة. بات من النادر رؤية أي تقارب أو توافق ولو ظرفي بين هذه القوى في مصر واليمن وسوريا والسودان وفلسطين وغيرها. في الأولى تدعم دول الخليج (باستثناء قطر) نظام عبد الفتاح السيسي، فيما تعاديه تركيا. في اليمن، لتركيا موقف ملتبث وقليل الأثر، إلا أنه لا يتوافق مع حاجة السعودية لحسم الحرب ضد الحوثيين هناك. في سوريا، لا تقدم دول الخليج أي دعم لتركيا، على الرغم من عداء الجميع لنظام بشار الأسد وتوافقهم على وحدة سوريا وهويتها. في فلسطين، تختلف القوى الإقليمية بين دعم السلطة الفلسطينية وحماس…
أثرت الحروب والأزمات المتنقلة في الشرق الأوسط على نفوذ تركيا الإقليمية. صحيح أنها طرف في بعضها وتدعم في كل بلد طرف على حساب آخر، إلا أن نفوذها قد تراجع بالمقارنة مع السنوات التي سبقت عام 2011.
لقد أثبتت التجربة في السنوات الأخيرة، أن وقوع الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بين ثلاثة محاور وليس إثنان قد أضر بجميع القوى الإقليمية وليس بتركيا فقط، كما أضر بأمن المنطقة بشكل عام. إن عداء المحور الإقليمية الأول المؤلف من السعودية والإمارات للمحور الثاني المشكل من تركيا وقطر، وعداء الإثنان، وإن بنسب مختلفة، مع المحور الإيراني السوري قد أضر الجميع دون إستثناء. لا الحروب في اليمن وسوريا وليبيا توشك على النهاية، فيما تتوجه بعض الدول الأخرى أكثر فأكثر نحو المزيد من الأزمات، كحالة السودان وفلسطين وغيرها.
إن وجود ثلاثة محاور إقليمية قد ساهم في نفخ الحياة بالصراعات المحلية، وجعل أي أزمة عصية عن الحل، وساهم في إفقاد أي محور قدرته على حسم قضية أو أزمة لصالحه، وذلك لإمكانية المحورين الآخرين التعاون ضده. تراوح الأمور مكانها في الشرق الأوسط، ولا يتقدم، بشكل حقيقي، أي طرف على آخر، إنما يتصارع الجميع دون تحقيق نصر أو الوقوع بهزيمة.
لا يشذ الوضع الليبي عن الوضع السوري أو اليمني إذاً. بضعة قوى محلية تتقاتل مع بعضها البعض، وترعاها دول إقليمية، ولا أفق لحل الأزمات أو إنهاء الحروب، إنما مجرد لعبة دموية من قوى إقليمية تبحث عن انتصارات لا تجدها، وأمن لا تسعى إليه بشكل جدي حتى.
References
[1] Mango, A. (2011), Ataturk, Hachette, United Kingdom, pp. 52-53
[2] Hall, R. (2000), The Balkan Wars 1912-1913: Prelude to the First World War, Routledge, New York, pp. 107-115.
[3] France 24 (2011), Turkey reluctantly joins NATO operations against Libya, retrieved from: https://www.france24.com/en/20110324-turkey-allows-nato-command-libya-military-operations-vote
[4] The National (2019), Libya’s Tripoli militias boast of Turkish weapons shipment despite UN embargo, retrieved from: https://www.thenational.ae/world/mena/libya-s-tripoli-militias-boast-of-turkish-weapons-shipment-despite-un-embargo-1.863229
[5] Asharq Al-Awsat (2019), Libyan Army Accuses Turkish Officers of Training GNA Forces, retrieved from: https://aawsat.com/english/home/article/1746261/libyan-army-accuses-turkish-officers-training-gna-forces
[6] Daily Sabah (2019), Erdoğan urges end to Haftar attacks as he meets Libya’s Sarraj in Istanbul, retrieved from: https://www.dailysabah.com/diplomacy/2019/07/05/erdogan-urges-end-to-haftar-attacks-as-he-meets-libyas-sarraj-in-istanbul
[7] الجزيرة مباشر (2019)، ما فرص تدخل تركيا عسكرياً في ليبيا لإيقاف مشروع حفتر؟
[8] سبوتنيك (2019)، المشير خليفة حفتر يخرج عن صمته تجاه تهديدات تركيا.