د. إيلي الهندي – مدير مركز الشرق الاوسط للدراسات والابحاث الاستراتيجية meirss.org
تتخبط الأحزاب في لبنان منذ أكثر من عقد في محاولة إيجاد قانون انتخابي جديد يصنع لأول مرة في لبنان بعد أن جرت العادة بعد الطائف في انتخابات 92 و96 و2000 و2005 و2009 أن يجري الخيار برعاية خارجية (قطرية في 2009 وسورية في كل ما سبق). إلا أن الوضع اليوم وفي المحاولة المختلفة منذ 2009 يختلف جذرياَ مع محاولة مختلف الأطراف حجز مكان لها في العمل السياسي وتوازن القوى بعد خروج الإحتلال السوري وانفتاح اللعبة السياسية في لبنان على كل الإحتمالت لاسيما في وسط شرق أوسط ملتهب وصراعات مذهبية عميقة.
يظهر اليوم جلياً للجميع ما يعرفه دارسوا علم السياسة والقانون الدستوري كحقيقة دامغة وهو أن قانون الإنتخاب هو أساس القوانين كلها وهو أساس تشكيل السلطة ومعييار الشرعية الشعبية والقانونية في آن. إذ أن شكل قانون الإنتخاب في ديمقراطية برلماية كالمعتمدة في لبنان وتفاصيله يحدد شكل وتركيبة مجلس النواب والذي بدوره يحدد شكل وتركيبة الحكومة وحتى هوية ومواصفات رئيس الجمهورية. ولذلك يبرز بوضوح تمسك القوى السياسية بقانون انتخاب يناسبها وتكون نتائجه شبه محسوبة يحفظ حضورها في السلطة.
كل ما سبق طبيعي في كل ديمقراطيات العالم ومفهوم الى حد ما، فتكون الإنتخابات النيابية الوسيلة التي يعبّر من خلالها المواطنون عن آراءهم وتوجهاتهم السياسية والإقتصادية وهذا هو الدور الأساسي لقانون الإنتخابات. أما في لبنان وباقي البلدان التعددية يبرز دور إضافي لقانون الإنتخاب يضاف الى تمثيل المواطنين كأفراد يشكلون مصدر السلطات، وهو تمثيل المجموعات المكوّنة للوطن. هذه المجموعات كما هو معلوم قد تكون دينية/طائفية (كحال لبنان ونيجيريا وإيرلندا الشمالية) أو إثنية (كحال بلجيكا وماليزيا) أو ثقافية/لغوية (كحال كندا وكتلونيا وسكتلندا) وقد تكون مركبة من عدة عوامل (كحال سويسرا والعراق والسودان). سنحاول في هذا المقال معالجة أهمية قانون الإنتخاب في لبنان بهدفه المزدوج (تمثيل المواطنين وتمثيل المجموعات) وبالتالي إيضاح الأسباب الموجبة لمعارضة النسبية في واقعنا الحالي.
في المفاعيل العملية للنسبية
ننطلق في هذه الفقرة من مفاعيل النسبية بشكل عام على أي نظام سياسي ونسقطها على الواقع اللبناني لفهم أفضل.
أولاً تكريس الزعامات بدل الحد منها: إن النسبية هي نظام يرتكز على وجود الأحزاب ويفعّل وجودها ودورها في اللعبة السياسية ويشجع على تعدد الأحزاب وتنوعها. لبنان يفتقد لمفهوم الصحيح للأحزاب وتقتصر أحزابه على زعامات عائلية أو طائفية أو مناطقية وقد يجوز الإعتبار الى حد بعيد، دون إغفال الإستثناءات، أن الأحزاب اللبنانية مرتبطة بشخص الزعيم ولا تتمتع بالديمقراطية والديناميكية الحزبية الصحيحة. بالتالي فإن النسبية تعطي المزيد من القدرة لهؤلاء القادة على التحكم بأحزابهم وبنوابهم وبالواقع السياسي إذ أن هذا الزعيم هو من سيشكل لائحة الحزب (وقد يرتب الأسماء إذا لم يوجد صوت تفضيلي) بحسب أفضلياته. وتكون النسبية بذلك لا تحقق الهدف المرجو والمفترض منها وهو تجديد الطبقة السياسية وتغيير الوجوه.
ثانياً تفتيت القوى السياسية والكتل البرلمانية: إن النسبية تعطي كل حزب/لائحة أمكانية التمثل في البرلمان بقوتها الذاتية بعدد مقاعد نسبة لعدد الأصوات التي نالها، وبالتالي فإن النسبية تشجع قيام أحزاب صغيرة وتعطيها أفضلية معينة[1]. بذلك تؤدي النسبية الى وجود عدد أكبر من الكتل البرلمانية الصغيرة وغياب الكتل البرلمانية الكبيرة. كما يشجع النظام النسبي، في غياب الحياة الحزبية المنتظمة كما ذكر، على إنقسامات وانشقاقات داخل الأحزاب الحالية لكل من لا يرضى بالموقع المعطى له من قبل الحزب في اللوائح ليشكل لائحته الخاصة ومحاولة ربح ولو مقعد. أضف إلى ذلك أن الكثير من المستقلين يتحالفون حالياً مع الأحزاب في لوائح مشتركة تجمع قواهم، وهذا ما سيصبح شبه مفقود في النظام النسبي. في الخلاصة يتشكل مجلس النواب اللبناني اليوم من حوالي 20 كتلة نيابية (4 منها كبرى تملك حوالي ثلثي المقاعد)، ومن المتوقع أن يبلغ عدد الكتل النيابية اكثر من ثلاثين مع النظام النسبي مع عدم امتلاك أي منها أكثر 15% من المقاعد. على سبيل المثال يتوقع في حال تطبيق النسبية في دوائر كبيرة دخول أشرف ريفي، وئام وهاب، فيصل الداوود، عبد الرحيم مراد، فؤاد مخزومي، الجماعة الإسلامية، الحركة السلفية، الناصريين، الحزب الشيوعي، الكتلة الشعبية، والكثير غيرهم إلى الندوة البرلمانية بكتل صغيرة تتراوح بين مقعد وخمسة مقاعد.
ثالثاً عدم استقرار سياسي في السلتطين التشريعية والتنفيذية: واقع التفتت الذي تم شرحه في ما سبق له تأثيرات خطيرة على استقرار الحياة السياسية وعلى عمل السلطتين التشرعية والتنفيذية. في ظل هذا التوزع للقوة يصبح من الصعب جداً تشكيل أكثرية واضحة في السلطة التشريعية فيصعب بذلك إمرار القوانين وتفعيل العمل التشريعي المعقّد أصلا. كما يترجم هذا التفتت بصعوبة تشكيل الحكومات، إذ يصبح من يرغب بتشكيل حكومة عرضة للإبتزاز من قبل العديد من الكتل الصغيرة التي يحتاجها لتأمين الأكثرية اللازمة للحكم، وبالتالي فإن الكتل الصغيرة ستفرض مطالبها التي غالباً ما تكون فئوية ومتضاربة على الكتل الكبيرة. وعليه نكون باعتماد النسبية قد زدنا تعقيداً جديداً على تعقيدات تشكيل الحكومات التي تحتاج حالياً إلى ميزان “جوهرجي” لتوزيع المقاعد الوزارية والحقائب على الطوائف والمناطق وبدل أن تنتقل إلى حكومات فعالة قادرة على الحكم نكون قد كرسّنا فكرة الحكومات التوافقية المليئة بالتناقضات والشلل والمعارضة من الداخل، وبدل عشرات الأيام المطلوبة لتشكيل الحكومات قد نحتاج إلى عشرات الأشهر. وبعد التشكيل تبقى الحكومات رهينة الإتفاقات التي حصلت وتحت رحمة الكتل الصغيرة التي يمكنها إفقاد الحكومة الثقة في أي وقت تشاء.
في النتائج السياسية للنسبية
أولاً يكرس الخلل في التمثيل المسيحي: فيما يبدو الدافع الأكبر للبحث عن قانون إنتخابي جديد هو تصحيح التمثيل المسيحي وإعطاء الناخب المسيحي القدرة على التأثير في إختيار عدد أكبرمن نوابهم ال64 بعد أن تدنى تأثيرهم في القوانين السابقة إلى ما أقل من 38 مقعداَ فالتأكيد أن النسبية ستحسن هذا التمثيل أمر غير دقيق أبداً. ففي حساب بسيط حسب مفهوم النسبية الكاملة فإن تطبيق النظام النسبي في دائرة واحدة تشمل كل لبنان سيعطي المسيحيين القدرة على التأثير في إختيار 35 الى 38% من المقاعد (44 إلى 48 مقعد) في أحسن الأحوال وهي نسبتهم من الناخبين. وهذا ما يضرب جوهر ميثاق العيش المشترك ووثيقة الطائف التي حددت للمسيحيين نصف المقاعد النيابية بغض النظر عن نسبتهم من الناخبين[2]. وهنا يجتهد مصمموا القوانين الإنتخابية على رسم دوائر إنتخابية تبتعد قدر المستطاع عن هذا الخلل وتحاول قدر المستطاع إعطاء المسيحيين تأثيرا على معظم نوابهم فيقع هؤلاء المصممون بين اختلال المعايير الموحدة لتقسيم الدوائر من جهة وفقدان مفاعيل النسبية إذا صغرت الدوائر وكثرت الضوابط من جهة أخرى. وهذا ما يفسّر أن الإقتراح النسبي الوحيد الذي قبلت به القوى المسيحية في بكركي هو 15 دائرة متوسطة (لا كبيرة ولا دائرة واحدة) مع عدد من الضوابط الأخرى كالصوت التفضيلي أو التأهيلي وتصويت المغتربين وغيرها. علماً أن قانونا كهذا يعطي تأثيرا مسيحيا على ما يقلّ عن 50 نائباً من أصل 64 بينما إقتراحات قوانين أخرى وصلت إلى حوالي 58 نائب.
ثانياً يفيد الثنائية الشيعية ويضر كل الباقين: كون النسبية كما سبق وذكر تعطي كل حزب/لائحة أمكانية التمثل في البرلمان بقوتها الذاتية وبالتالي تشجع قيام أحزاب صغيرة سيكون للنسبية تأثير كبير على الحياة السياسية اللبنانية. كل الكتل الكبيرة ستخسر حتما بفعل النسبية عددا كبيرا من المقاعد لصالح أحزاب/لوائح صغيرة مما سيؤدي إلى إضعاف قوتها في البرلمان وبالتالي تأثيرها على الحياة السياسية. أبرز من سيتضرر من النسبية ستكون أكبر كتلتين في البرلمان وهما المستقبل والتيار الوطني الحر[3] كما سيحرر الطائفة الدرزية وغيرها من أحادية القيادة. في السياسية هذا يعني نزع، عن المستقبل والتيار، صفة التمثيل الأقوى في طوائفها وظهور عدة قوى إلى جانبها يمكن أن تقدم كبديل عنها في أي استحقاق أو تصويت. أما المفارقة الأهم فهي أن الضرر نفسه لن يلحق بالكتلتين الشيعيتين (على الأقل ليس بنفس المقدار) كون سيطرتها على مجتمعاتها هي الأكبر ولم تظهر بعد أية قوى معارضة/بديلة ولن تظهر في ظل وهج السلاح وفائض القوة واستمرار تدفق الأموال والخدمات. مما يعني في المحصلة أن الثنائي الشيعي قد يفقد بعض المقاعد الضئيلة إلا أن القوى الأخرى ستخسر الكثير من قوتها وبالتالي فإن النسبية ستجعل من الثنائي الشيعي المتحكم الأساسي في كل الإستحقاقات لا سيما إذا أضفنا إلى قوته قوة الحلفاء التقليديين (أحزاب البعث، والقومي) وحلفائه الآخرين في مختلف الطوائف الذين سيدخلون البرلمان أوسيزداد حجم كتلهم على حساب القوى المنافسة للثنائي. هذا يفسّر بوضوح سبب تمسك الثنائية الشيعية بالنسبية في أكبر دوائر ممكنة وتردد المستقبل والإشتراكي في قبولها.
ثالثاً فرط التحالفات العابرة للطوائف وزيادة التجييش الطائفي: إن النسبية تعطي كل حزب/لائحة أمكانية التمثل في البرلمان بقوتها الذاتية بعدد مقاعد نسبية لعدد الأصوات التي نالها، وبالتالي فإن النسبية تلغي الحاجة الى التحالفات بين الأحزاب والتي تتطلب مفاوضات وتنازلات وتفاهمات مشتركة والتي في لبنان غالباً ما تجعل الحزب المسيحي بحاجة الى الناخب المسلم والعكس. فبدل التفاوض والمساومة سيفضل كل حزب الترشح بشكل منفرد ليفرض نفسه ويحاول بقدرته الخاصة وعبر التجيّيش الطائفي داخل جماعاته اقتناص أكبر عدد ممكن من المقاعد. فتكون النسبية بذلك، بدل أن تخفف من الإحتقان الطائفي قد زادت منه وجعلته عاملاً فعالاً في العملية الإنتخابية.
رابعاً فسح المجال لتمثيل الأحزاب المتطرفة: تحقق النسبية أهدافها كلما اتسعت الدائرة وصغر الحد الأدنى للتمثيل، أي عبر إعطاء الأحزاب الصغيرة القدرة في تجميع قواها وأصواتها لتبلغ الحد الأدنى[4] الذي يخولها حجز مقعد نيابي في دائرة معينة. الواقع اللبناني يفرض معضلة تكمن في أن تصغير الحد الأدنى وتكبير الدوائر سيسمح بنسبية أفضل وبالتالي بفرص أكبر لتمثيل أحزاب متطرّفة من كل الإتجاهات على المعيار الطائفي (كحركات إسلامية أو حتى تكفيرية، أوحركات تقسيمية) والإجتماعي (تروتسكيين أو فوضويين anarchist أو يمين متطرّف). قد يقال أن وجودهم في البرلمان أفضل من وجودهم خارجه إلا أن المجموعات المماثلة لم تتمثل في تاريخ البرلمان اللبناني وبالتالي فإن لبنان بغنى عن إعطائها منبرا رسميا توصل من خلاله صوتها وتزيد تأثيرها. أما إذا رفعنا الحد الأدنى للتمثيل واعتمدنا الدوائر المتوسطة يشكل ذلك انتقاصاً من أهداف النسبية وفعاليتها.
في الختام، بعض التصويبات:
إن العدد الأكبر من الدول في العالم يعتمد النظام الأكثري وليس النسبي، وبالتالي من التضليل تقديم النسبية للعامة على أنها النظام الأفضل.
إن واقع النظام اللبناني يفرض الموازنة بين تمثيل المواطنين الأفراد من جهة والمكونات الطائفية من جهة أخرى. إذا كانت القوانين السابقة قد أعطت أفضلية للطوائف على حساب المواطنين، فلا يجب تصحيح الخلل بخلل أكبر عبر تكريس سوء تمثيل الطوائف لأن ذلك سيؤدي إلى أزمات لا يحتملها لبنان.
إن القانون الذي يحقق مساواة المواطنين أمام القانون ويحقق صحة التمثيل للطوائف في الوقت نفسه هو غير موجود ولا يمكن اختراعه بحكم الإختلاف بين عدد الناخبين المسيحيين وعدد المقاعد الذي يعطيهم إياها الدستور. بالتالي فإن كل المحاولات تسعى لتحقيق المستحيل أو الإقتراب منه قدر المستطاع، بينما الحل الواضح موجود في إتفاق الطائف، ألا وهو فصل تمثيل الطوائف عن تمثيل المواطنين في مجلسين مختلفين مجلس نواب منتخب على أساس لا طائفي (وهنا قد يصلح النظام النسبي) ومجلس شيوخ منتخب على أساس طائفي صرف (وهنا قد يصلح النظام “الأرثوذكسي”).
لا بد من التذكير بمجموعة الإصلاحات التقنية[5] التي لا يجب أن تضيع في خضم الصراع السياسي والبحث عن الضالة المنشودة، لأن لهذه الإصلاحات أثرا أكبر وأفضل من النظام النسبي لناحية حماية صحة وسرية الإنتخاب وحرية الناخب دون أن تخلق أضرار جانبية.
[1] تختلف هذه الأفضلية ومستواها بحسب تفاصيل النظام الإنتخابي كتركيب اللوائح والصوت التفضيل وطريقة إحتساب المقاعد وغيرها من العوامل
[2] هذا ما دفع حزب القوات اللبنانية لإعتبار النسبية خروج عن الطائف والميثاقية نحو ديمقراطية عددية تحصر تأثير المسيحيين بعدد ناخبيهم.
[3] مع تطبيق الصوت التفضيلي أو التأهيلي ستكون خسارة المستقبل أكبر بكثير من خسارة التيار كونه سيخسر معظم مقاعده المسيحية إضافة الى بعض المقاعد المسلمة فتتقلص الكتلة من 38 إلى ما يقارب 20.
[4] الحد الأدنى يتراوح عادة بين 2% و5% من الأصوات. يرتفع الحد الأدنى بقرار سياسي في بعض الحالات الى 10% مما يتناقض مع أهداف النسبية.
[5] تشمل هذه الإصلاحات الورقة المطبوعة سلفا، واللجنة المستقلة للإنتخابات، والمراقبة المالية والإعلامية، وتصويت غير المقيمين، وغيرها…