TOPSHOT - A Turkish-backed Syrian rebel fighters hold Turkish national flag (R) and Free Syrian Army flags (L) at a checkpoint in the Syrian town of Azaz on a road leading to Afrin, on February 1, 2018. Clashes raged between Turkish-backed forces and Kurdish militia in Syria's Afrin region on January 31, 2018, as wounded civilians fled intense Turkish air strikes. Turkey and allied Syrian rebels have pressed on with Operation Olive Branch in the Kurdish-controlled Afrin enclave despite mounting international concern and reports of rising civilian casualties. / AFP PHOTO / OZAN KOSE
تجري رياح المعارك الأخيرة شمال سوريا على ما لا تتمناه سفن القوى والميليشات الكردية. سيطرت تركيا على مدينة عفرين وريفها بعد معارك استمرت لأكثر من شهر تخللها قتال تراجعي للأكراد، وزحف متأني ومتوسط السرعة للجيش التركي والميليشيات السورية المرافقة له. أما اليوم، فتتحضر القوى المهاجِمة لتحقيق المزيد من السيطرة والتوسع، وتسعى إلى تحطيم حلم الأكراد بوطن قومي بعدما استفحل نفوذهم وزادت أوهامهم في المنطقة.
الأمن القومي التركي فوق كل اعتبار
لم يكن الدخول التركي البري إلى عفرين الأول من نوعه شمال سوريا. ففي الأعوام الماضية، أرسلت أنقرة جيشها إلى إدلب واستقرت هناك إلى جانب العديد من المجموعات السورية الهاربة من معاركها المذلة مع النظام. في المقابل، لا ينفك هذا الأخير ورئيسه بشار الأسد من تحقيق تقدم على كامل الخريطة السورية، حيث كان آخرها السيطرة على مناطق واسعة من الغوطة الشرقية للعاصمة دمشق.
بدورها، لا تبدي تركيا أي رغبة بالإنسحاب من معركة “حماية الأمن القومي” على حدودها الجنوبية على حد تعبير رئيسها رجب طيب أردوغان[1]. فوجود ميليشات ذات غلبة كردية شمال سوريا، يُشكل خطراً حقيقياً على الأمن القومي لتركيا ووحدة أراضيها. إن الأتراك، كما العراقيين والسوريين، يدركون الهدف النهائي للقوى الكردية الساعية إلى تحقيق حلم إقامة دولة قومية. وهذا ما يهدد وحدة الأراضي السورية من ناحية، كما يشكل عامل استفزاز لتركيا المأهولة بملايين الأكراد الذين لا تنفك فكرة بناء وطن قومي تدغدغ أحلامهم.
وضعت القيادة السياسية والعسكرية التركية المعركة شمال سوريا في ميزان المصلحة الوطنية والقومية أولاً. هدفت أنقرة إلى إبعاد شرّ تجرع سم تقسيم سوريا على جارتها وعلى نفسها بشكل خاص. جلّ ما أرادته من هذه المعركة بالذات، هو قتل الحلم الكردي وإبعاد ميليشيات “قوات سوريا الديمقراطية” عن حدودها الجنوبية. تتلاقى هذه الميليشيا ذات الأغلبية الكردية فكرياً وسياسياً مع حزب “العمال الكردستاني” الذي تقاتله أنقرة منذ العام 1984، وتعتقل رئيسه الأبدي في سجنها، وتصنفه في خانة المنظمات الإرهابية التي أودت بحياة أكثر من 40 ألف تركي[2].
بالإضافة إلى حماية أمنها القومي، لتركيا أهدافاً أخرى تتعلق بإعادة الإعتبار لجيشها التي تشوهت سمعته خلال محاولة الإنقلاب الفاشلة عام 2016. كذلك الأمر، تهدف من عملية عفرين إلى رفد القوات السورية المناوءة للأسد ببعض الجرعات المعنوية لاستكمال القتال، ما يؤدي، بطبيعة الحال، إلى تعزيز موقع أنقرة التفاوضي، ويجعلها طرفاً أكثر أهمية في أي حل مستقبلي للأزمة السورية.
على مدى الأشهر الماضية، استطاعت أنقرة خلال محادثاتها الثلاثية مع موسكو وطهران من الحصول على غض طرف إقليمي ودولي شبه كامل في التعامل مع التهديدات التي تمس أمنها القومي. تم الإعتراف بحق أنقرة في حماية حدودها وما وراءها، وغضت معظم القوى الفاعلة الطرف عن التحرك التركي. وعليه، تُرك الأكراد لمصيرهم، ووقعوا في مواجهة مباشرة مع عدوهم الأزلي القادم من خلف الحدود، والذي رافقه آلاف السوريين المجندين حديثاً.
إزدياد الشقاق الكردي – العربي
لم تكترث أنقرة لحجم خسائرها البشرية المتوقعة، ولا لإمكانية ظهور رفض دولي لدخولها مجدداً إلى سوريا. كما لم تهتم، خصوصاً، للغضب العربي من قيامها بهذه الخطوة. إنما على العكس، قدمت تركيا المعركة على أنها تخليص للعرب من السطوة الكردية.
مع هذه المعركة، وصل الشقاق الكردي – العربي إلى حدود غير مسبوقة، وظهرت المشاعر الحاقدة والدفينة بين الطرفين. أُخرجت الخلافات المكبوتة ورميت على الآخر، واستُحضر التاريخ. زاد من الطين بلة قيام ميليشيات “الجيش السوري الحر” القادمة مع الأتراك بممارسة أسوأ الجرائم بحق أصحاب الأرض. تم قتل المدنيين بدم بارد، ونكلوا بجثث المقاتلات الكرديات أمام عدسات الشاشة[3]، ونهبوا المنازل والمحلات، ودمروا مدافن الأكراد وتماثيل أبطالهم.
لم ترَ الدول العربية وشعوبها يوماً الأحلام الكردية بعين إيجابية. استقطاع أرض للأكراد تعني خسارة أرض عربية. انتقم “العرب” القادمون من الشمال من الأكراد، وتم تدفيعهم ثمن الوقوف على الحياد المائل للأسد خلال الثورة السورية. سقطت عفرين وتفرقت الميليشيات الكردية التي حاربت بشراسة تنظيم “داعش”، وتوزع من لم يلقَ حتفه من حوالى الـ3700 قتلتهم تركيا حسب زعمها[4] إلى بقية المناطق ذات السيطرة الكردية.
أما النظام السوري، فلم يبادر إلى إنقاذ الأكراد. لا مواجهة الجيش التركي ممكنة ولا مصلحة كبيرة له أصلاً في إبقاء الوضع شمال البلاد على حاله. تجمعت جميع العناصر في وجه الميليشيات الكردية، ودفعوا الثمن غالياً؛ تركيا تحاربهم حفاظاً على أمنها القومي، الجيش السوري لا يستطيع أو حتى يريد مساعدتهم، والميليشيات السورية متعطشة للدم.
اختارت تركيا بعناية المقاتلين السوريين الذين أدخلتهم معها إلى عفرين. تم انتقاء من له خبرة عسكرية، وتمت أدلجتهم سريعاً ولعدة أشهر بشكل غزى المشاعر القومية العربية والإسلامية فيما بينهم. بعض هؤلاء قاتل الأكراد سابقاً، وبينهم “المعتدلين” والبعض الآخر إسلامي متطرف. فُتحت أبواب التطوع في المدن التركية للراغبين في القتال مع الجيش، وتم اختيار الكثيرين ممن استوفوا الشروط[5]. إنتهى الأمر بأن أنشأت أنقرة ألوية سورية للقتال إلى جانبها، وتم إعطاءهم بعد السيطرة على عفرين حرية التصرف، فكان الإنتقام.
مع دخولهم إلى المدينة انشغل الجنود الأتراك برفع علمهم في كل مكان، فيما راح الضباط ينتقون أفضل الأماكن لبناء القواعد العسكرية الجديدة. من ناحيتها، قامت ميليشيات “الجيش السوري الحر” بهدم التماثيل وطلاء التعابير الدينية على كل شيء، كما حرق محلات بيع الخمور وهدم المعابد الأيزيدية، وتنفيذ الكثير من الممارسات الشاذة الأخرى، في أحداث تشبه حد التطابق الممارسات بحق الأكراد العراقيين قبل عام.
التجربة العراقية المرّة: انتفاء الحاجة للأكراد
الحرب فرصة لتغيير الواقع. سعى الأكراد منذ بداية الحرب السورية وما رافقها من ظهور لتنظيم “داعش” إلى الإستفادة قدر الإمكان من حاجة الآخرين إليهم. في العراق، أبلى جيش الإقليم الكردي والميليشيات الأخرى البلاء الحسن في مواجهة الإرهابيين، ومدوا نفوذهم إلى مدينة كركوك الغنية بالنفط. أظهرت ظروف الميدان حاجة الحكومة العراقية، كما الدول الإقليمية، للبندقية الكردية، فانتصر الجميع على “داعش”.
حاول الإقليم الكردي الإستفادة سياسياً من الإنتصار الميداني، إلا أن مشروع إعلان دولة كردية في خريف العام 2017 انتهى حبراً على ورق، فطُردت قوات “البشمركة” من كركوك، وسقط الإقليم من جديد بين مطرقة حكومة بغداد وسندان القوى الإقليمية.
لا تختلف التجربة الكردية العراقية مع تلك السورية كثيراً. بعد ظهور “داعش”، تمّ توكيل الأكراد من قوى محلية وإقليمية ودولية بقتالهم. زُوّدوا بالأسلحة والتدريب من كل الجهات، وبالغطاء الجوي. قاتلوا المنظمات الإرهابية وانتصروا عليها في الكثير من البقاع العراقية والسورية. ثم انتفت الحاجة لهم.
لم يعرف الأكراد كيفية الاستفادة من الإنتصار الميداني في المجال السياسي. بسالة القتال التي أظهروها في الميدان أنهت الحاجة إليهم سريعاً، فتُركوا لمصيرهم. لم يدم الحلم الكردي طويلاً، وانتهى إلى سراب ووهم. لو خففوا من بسالتهم في الميدان وسرعتهم في تحطيم “داعش” لكانوا استطاعوا، ربما، من تعزيز حضورهم في الأماكن التي سيطروا عليها. أو باتوا أمراً واقعاً في تلك البقع الجغرافية، وحافظوا على دعم محلي وإقليمي وغربي مستدام.
كما في العراق كذلك شمال سوريا. حطمت “قوات سوريا الديمقراطية” ذات الأغلبية الكردية “الدولة الإسلامية” وسيطرت على معاقلها الأساسية. تراجعت “داعش” إلى حدود الإضمحلال في أبرز البقع الجغرافية السورية، فتدخلت تركيا لتصفية حسابها مع الأكراد، والتي لا يبدو أنها في وارد التوقف في عملياتها العسكرية عند حدود عفرين.
ماذا بعد عفرين؟
بعد السيطرة على عفرين، بقي أمام القوات التركية بعض القرى شرق المدينة، وهي سهلة الاجتياح إذا استمر التوافق والوئام التركي الروسي. من أهم تلك المناطق تل رفعت ومطار منغ اللذان يتشاركهما مداورة الأكراد وقوات النظام السوري. لا يمكن لأنقرة الدخول إلى هذه المناطق دون توافق مع موسكو، وهو توافق يبدو إلى الآن على قاب قوسين أو أدنى من التحقق، الأمر الذي من شأنه أن يلغي احتمال الصدام التركي – السوري المباشر في هذه المناطق.
أعلنت أنقرة سابقاً أن واحدة من الأهداف الأساسية لتحركها العسكري هو منطقة منبج وشرق الفرات (سوريا) ومنطقة سنجار (العراق). تختلف ظروف كل معركة عن الأخرى، إلا أن التقارير والتصريحات القادمة من تركيا تشير إلى الجدية التي تبديها القوات المهاجِمة للتخلص من كامل الخطر على حدودها.
بالنسبة إلى منبج التي تتمركز فيها “قوات سوريا الديمقراطية” وقواعد عسكرية أميركية، تحاول أنقرة التوصل إلى اتفاق مع واشنطن لتغير الوضع هناك. تهدف تركيا إلى إخراج القوات الكردية منها واستبدالها بأخرى من “الجيش السوري الحر” بعد التوافق مع أميركا على كيفية إدارتها وحفظ الأمن فيها.
تختلف إستراتيجية واشنطن في التعامل مع الأكراد تبعاً للجغرافيا. في شرق الفرات تتعامل واشنطن مع القوات الكردية كحليف قوي وثابت، إلا أن الأمر ليس كذلك غرب النهر. إن عفرين ومنبج تقعان غرب الفرات، لكن أغلب القوات الكردية موجودة في شرقه. الأمر الذي يعني أن أي حل للوضع الكردي غرب النهر لا يمكن أن يتم دون توافق عميق وشامل بين أنقرة وواشنطن. هذا التوافق لا يبدو أنه من السهل تحقيقه في الوقت الحاضر، خصوصاً بسبب التغييرات الجذرية التي تجريها الإدارة الأميركية في الوزارة الخارجية.
أما في المناطق العراقية القريبة من الحدود السورية، والتي يسيطر عليها حزب “العمال الكردستاني”، قد تستفيد تركيا من انزعاج الحكومة العراقية وإدارة الإقليم الكردي من الوضع في سنجار. وهذا ما يمكن أن يسمح بحصول أنقرة على تأييد محلي للقيام بعملية سريعة هناك تنهي سيطرة “العمال الكردستاني”؛ عدو تركيا الأول.
إلى الآن، تبقى تركيا “حرة” في التعامل مع الأكراد غرب الفرات تحت حجة الحفاظ على أمنها القومي. إلا أن الأمر يختلف جذرياً شرق الفرات حيث تكبل أنقرة القوى الدولية والمحلية، والتي لا مفر من التفاهم معها إن أرادت التقدم. إن مسار الأمور والتطورات في الأشهر الأخيرة يُنبئ بأن هذه تفاهمات لا ريب قادمة، كل ما في الأمر أن توقيتها فقط لا يزال غامضاً.
[1] Atlas, Meryem Ilayda (2018), Turkey’s Afrin operation to continue until YPG terrorism eliminated altogether, Daily Sabah, retrieved from: https://www.dailysabah.com/war-on-terror/2018/03/01/turkeys-afrin-operation-to-continue-until-ypg-terrorism-eliminated-altogether-1519938604
[2] Mandıracı, Berkay (2016), Turkey’s PKK Conflict: The Death Toll, International Crisis Group, retrieved from: https://www.crisisgroup.org/europe-central-asia/western-europemediterranean/turkey/turkey-s-pkk-conflict-death-toll
[3] Hammoura, Joe (2018), Turkey’s “Mercenaries”: Vengeance from a Woman’s Body in Afrin, Platform for Peace and Justice, retrieved from: http://www.platformpj.org/opinion-turkeys-mercenaries-vengeance-womans-body-afrin/
[4] Trt Haber (2018), Cumhurbaşkanı Erdoğan’dan ABD’ye ‘Münbiç’ tepkisi, retrieved from: http://www.trthaber.com/haber/gundem/zeytin-dali-harekatinda-3698-terorist-etkisiz-hale-getirildi-356360.html
[5] Haber Turk (2018), Suriyeli sığınmacılar gönüllü askerlik başvurusunda bulundu, retrieved from: http://www.haberturk.com/suriyeli-siginmaci-gonullu-askerlik-basvurusunda-bulundu-1808397