لا إمكانية حقيقية لفهم تاريخ تركيا الحديث دون سبر أغوار الموجهات الدائمة بين الجماعات الدينية والحكم العلماني. انتصر هذا التيار أو ذاك تبعاً للمراحل والظروف، إلا أن الشعب التركي حافظ دوماً على تديّنه بشكل واضح، واستمر على إيمانه بدوره كحارسٍ لإرث إسلامي عريق يعود إلى ما قبل قيام السلطنة العثمانية.
يعود جزء كبير من هذه المسؤولية الدينية – التاريخية التي ارتضاها الأتراك لأنفسهم إلى عوامل عدة. شكّلت تأثيرات الذاكرة الجماعية الإسلامية على هوية أتراك اليوم واحدة من أهم هذه العوامل. فيما لعب، كذلك، وجود طرق صوفية إسلامية متنوعة ومؤثرة في المجتمع التركي دوراً كبيراً في تلك المسؤولية.
لا تزال الطرق الصوفية تحظى باحترام موقّر وأتباع كثر وقدرات مالية هائلة مكنتها من المحافظة على تديّن المجتمع لحظة إطباق القوى العلمانية على الدولة والحكم عام 1923. وكانت الطرق قد عانت من قمع السلطة أسوة ببقية الأتراك، فمُنعوا من العمل على الأراضي التركية، كما أغلقت مراكزهم، وتحولوا إلى أعداء للدولة، ثم دخل قسم منهم إلى مضمار العمل السياسي وآخرون إلى العمل التربوي والإعلامي. فأدى هذا الأمر، في نهاية المطاف، إلى تأليب الأتراك على العلمانيين والجيش، فانتهى الأمر بأن ساهموا بإيصال حزب “العدالة والتنمية” الإسلامي إلى الحكم في العام 2002، والمحافظة على سلطته.
ومنذ ذلك التاريخ، زاد نفوذ الطرق الصوفية في الدولة والمجتمع، فتحولوا من أعداء للنظام إلى مستفيدين من خيراته. ومن ثم إلى أدوات للدولة في السياسة الخارجية والداخلية، خصوصاً مع تبنيهم من قبل الحزب التركي الحاكم من أجل المحافظة على سلطته في الداخل وتعزيز تأثيراته السياسية والدينية والاقتصادية والثقافية في الخارج.
إرث الأتراك الصوفي
في تركيا اليوم عشرات الطرق الصوفية الإسلامية، والتي تتمايز حول بعض التفاصيل المرتبطة بالنظرة إلى الحياة والدين والتنظيم الداخلي، والمنتشرة على كافة الأراضي وخصوصاً في الوسط الأناضولي. يقدّر أعضاء الطرق كالنقشبندية والقادرية والرفاعية والنورسية والبكتاشية والمولوية وغيرها ببضعة ملايين من السكان المنتمين إليها أو المتأثرين مباشرة بها[1]. ولكل واحدة من هذه الطرق تاريخها الدّعوي والعسكري والخيري والاجتماعي الخاص حيث لعبت معظمها أدواراً أساسية في تاريخ الأتراك.
يعود دخول الطرق الصوفية إلى حياة الأتراك إلى فترة القرون الوسطى وذلك مع انتشار الإسلام فيما بينهم، وخَدمتهم خلال هذه الفترة في مسائل أساسية ثلاث. الأولى تمثلت في تقوية الروابط الإسلامية الأخوية فيما بينهم من ناحية، كما بينهم وبين بعض الشعوب والقبائل المجاورة من ناحية أخرى. أما الثانية فكانت زيادة أعداد المسلمين في وسط آسيا والأناضول مع تركيز الطرق الصوفية على الدعوة والتبليغ والتبشير، فزادت من قوة المسلمين الأتراك في حروبهم المتتالية مع الممالك والإمارات غير الإسلامية. في حين تمثلت الثالثة في استخدام “بني عثمان” للطرق الصوفية في استراتيجية الحرب عبر إرسالهم إلى الأماكن النائية لإعمار التكايا والزوايا والاستيطان فيها على الحدود الفاصلة بين العثمانيين والإمارات الأخرى، فشكلوا بذلك مواقعاً متقدمة لرصد تحركات الأعداء وتجنيد البدو الرحل والعشائر لصالح العثمانيين. بالإضافة إلى تحوّل عدد من الطرق الصوفية إلى عقائد دينية خاصة للكثير من ألوية الجيش العثماني ما أعطاها إنتماءً موازياً للعقيدة الإسلامية وزاد من صلابتها وتضامن أفرادها وبأسها[2]. فشكّل وجود الطرق الناشطة في تاريخ الأتراك، كما استغلال السلطات لهم كرافعة لزيادة نفوذها وانتشارها ووحدتها سلاحاً أعطى “بني عثمان” أفضلية على الشعوب والممالك الأخرى للتوسع العسكري والديمغرافي.
مع تضخم حجم السلطنة العثمانية وقوتها، بات للطرق نفوذ في الصدر الأعظم خلال القرنين الأخيرين من عمر الدولة العليّة، وباتوا يشغلون مراكزاً حساسة في الدولة وفي مؤسساتها الدينية الرسمية. كما شهدت عهود كثيرة سطوة الطرق على السلطات السياسية وبيروقراطية الدولة، خصوصاً عندما كان يعتلي العرش العثماني سلاطين ضعفاء.
“محو” الإرث الصوفي
إلا أن هذا الإرث الصوفي القديم لم يمنع مصطفى كمال “أتاتورك” من إظهار عدائيته للمؤسسات والروابط الإسلامية والطرق الدينية على أشكالها، فأمر بإغلاق المراكز الصوفية في بلاده ومنعها من العمل منذ العام 1925، وذلك ضمن سلسلة من القرارات المتتالية التي هدفت إلى تحجيم نفوذ وتأثير رجال الدين في المجتمع[3]. هدفَ مؤسس الجمهورية من هذه الإصلاحات إلى بتر ماضي الأتراك الإسلامي عن حاضره الذي أراده علمانياً، فراح يؤلب الناس على رجال الدين ودراويش الصوفية وينتزع ممتلكاتها لصالح الدولة. إلا أن الطرق لم تسلّم أمرها إلى حكام تركيا الجدد دون منازلة عسكرية، فقامت بتنظيم ثورة في العام 1925 عُرفت بثورة “الشيخ سعيد النقشبندي”.
جمعت الثورة في صفوفها الأقلية الكردية الساخطة على سياسات “أتاتورك” القومية، كما الطرق الصوفية الناقمة على سياساته العلمانية. إلا أن النجاح لم يُكتب لها، فيما انتهى أمر “الشيخ سعيد” شهيداً مُعلقاً على حبل المشنقة مع رفاقه[4].
مع سيطرة “أتاتورك” على كامل مقاليد السلطة بعد العام 1925، تراجع نفوذ الطرق الصوفية التي راحت تعمل في السر بعيداً عن أعين السلطة المركزية. لم تمانع الدولة ترك فسحة بسيطة من هامش الحرية والحركة للطرق في الأناضول طالما أن هذه الأخيرة لا تعارض الحكم “الأتاتوركي” علناً أو تستخدم العنف لمواجهته، في حين عمدت الطرق إلى اجتذاب الطبقة المتوسطة والإنتلجنسيا التركية الناقمة على ديكتاتورية الحكم الجديد وعنفه[5].
عودة الطرق عبر النوادي الثقافية
مع تنظيم الجمهورية التركية لأول انتخابات تعدّدية في تاريخها، عمدت الطرق الصوفية إلى الدخول إلى ميدان السياسة بشكل مباشر. فقامت بالترويج والتصويت لـ “الحزب الديمقراطي” الأقل عدائية للدين، ففاز رئيسه عدنان مندريس برئاسة الحكومة عام 1950. فما كان منه إلا أن ردّ الجميل لمن ساهم في إيصاله إلى الحكم، فأعاد بعض رموز الدين إلى الفضاء التركي العام وشجّع الطرق الدينية للعودة إلى لعب دورها الاجتماعي والدّعوي[6].
مع نجاح تلك السياسة، بات التنظيم ضرورياً لتتحول الطرق من مجرد كتلة شعبية ناخبة خلال الإنتخابات، وجماعات دينية تنظم حلقات الذِكر والرقص الفلكلوري، إلى تنظيم اجتماعي – اقتصادي ذات تأثير سياسي. لذا، شهدت ستينيات وسبعينيات القرن الماضي بروز أطر مختلفة وجديدة لعملها تمحورت حول تأسيس “النوادي الثقافية”.
ولأن الحكم العلماني كان يمنع تأسيس الأحزاب أو الجمعيات الإسلامية، عمد الصوفيون إلى تأسيس نوادٍ أخذت من المواضيع الثقافية عناوين تمويهية لها، في حين سعت في حقيقة الأمر إلى تعزيز تنظيم الجماعات الإسلامية من ناحية، والتواصل مع أكبر عدد من المثقفين والنخب من ناحية أخرى. فكانت الحركات الصوفية، وبخاصة النقشبندية والنورسية منها، تشكّل عصب هذه النوادي التي أسِّست في المدن الكبرى وافتتحت فروعاً لها في كل نواحي البلاد.
إن تجربة إنشاء “النوادي الثقافية” قد أثبتت جدواها، وأضحت أماكن مثالية لاجتذاب النخب الفكرية وطلاب الجامعات ومدرّسيهم. فضمت هذه النوادي عشرات الآلاف من الناشطين، وراجت الأفكار الصوفية والإسلامية فيما بينهم، فخلص عملها إلى تثقيف جيلٍ جديدٍ من النخب الشابة المتأثرة بالطرق الصوفية والعقائد المحافِظة والمعادية لعلمانية الدولة[7].
تجربة فتح الله غولن “الصوفي”
من ناحية أخرى، سعت الطرق الصوفية ومن يدورون في فلكها إلى التأثير بجميع الأتراك وليس في النخب فقط، فكان الداعية الإسلامي “فتح الله غولن” المقرّب من الطريقة النورسية أبرز الناجحين في إحداث تأثيرات ملموسة في بنية المجتمع. عمد الرجل، منذ العام 1969، إلى تأسيس دور للطلبة حول المدارس والجامعات والمهنيات، ثم راح يفتتح المدرسة تلوى الأخرى في القرى والمدن، ليعود ويوسّع نشاطاته في الحقل التربوي والإعلامي عبر تأسيسه لعشرات الجامعات ودور النشر والمحطات الإذاعية والصحف.
لم يقتصر عمل “غولن” على التربية والإعلام داخل تركيا، بل عمد، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، إلى افتتاح عشرات المدارس والجامعات في دول آسيا الوسطى، كما في الدول الأوروبية التي يوجد بها متحدرون من أصول تركية كألمانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا وغيرها، فوصل عددها إلى حوالي الـ2000 مدرسة[8]. أما النتيجة الأبرز لعمل مؤسسات “غولن” فكانت تأليب الأجيال التركية الناشئة على علمانية الدولة وحكم العسكر، وخلق شبكة كبيرة من المصالح بين القطاع التربوي ورجال الأعمال والمؤسسات الإعلامية التي تعمل كل منها على بث الفكر المحافِظ حيث ما تستطيع.
أدى عمل “غولن” والطرق الصوفية السري والعلني إلى إبعاد الناس عن العلمانية، كما سحبوا الشرعية الشعبية من تحت بساط الحكام والعسكر. فبات الأتراك مع نهاية القرن الماضي أقرب إلى الإنقلاب على “الأتاتوركيين” بعدما أشبعتهم الطرق الصوفية ومؤسساتها الاجتماعية والثقافية والتربوية بالعقائد الدينية. الأمر الذي أدى، في نهاية المطاف، إلى وصول حزب “العدالة والتنمية” إلى الحكم، على الرغم من أن الفترة التي امتدت من تأسيسه في العام 2001 وحتى فوزه في العام 2002 لم تتجاوز السنة، فكان الفوز من نصيبه بعدما عَبّدت القوى الإسلامية الصوفية (كما حزب السعادة الذي انفصل عنه) الطريق أمامه للوصول إلى السلطة، وشكلت سلاحه السري الذي أرفدته بالأصوات والدعم الإعلامي والدعائي.
الطرق الصوفية في خدمة السياسة الخارجية
لطالما تنافست القوى الإقليمية على النفوذ والتأثير في محيطها. فكانت، ولا تزال، كل من إسرائيل وإيران وتركيا مثلاً تسعى لتحقيق طموحاتها المتمايزة والمتشعبة في الإقليم العربي، والتي تتحقق عادة عبر استخدام هذه الدول لمكامن قوتها الخاصة كأدوات لزيادة النفوذ الخارجي.
تتشعب القوة الخاصة لهذه الدولة إلى ما هو اقتصادي وتجاري، وصولاً إلى حملها راية عقائد دينية وثقافية والتبشير بها، مروراً بالقدرات العسكرية والسياسية الصرفة. غير أن لتركيا سلاحاً إضافياً نادراً ما يتم معالجته عند دراسة تأثيرها الخارجي على محيطها، وهو سلاح قديم العهد ويتم استخدامه غالباً لتعزيز التأثير الثقافي والديني على محيطها.
للطرق الصوفية ذات المنشأ التركي، أو تلك التي يسيطر على رئاستها أتراك، فروع في الدول المحيطة. فالطريقة النقشبندية ذات الحضور والقوة الكبيرين في تركيا فروع كثيرة ومؤثرة في شمال العراق عامة وفي مدينة الموصل بشكل خاص، وبين المسلمين في جزيرة قبرص وآسيا الوسطى والقوقاز، كما في مدينة حلب السورية وبعض القرى في أقسى شمال لبنان.
وتشكّل فروع الطرق الصوفية في الدول المحيطة روافد للمنبع التركي الأساسي، وإن كانت تتمتع ببعض الحرية في العمل والتنظيم. إلا أن تركيا تبقى المركز الداعم لمعظم هذه الطرق وتنظم لها المؤتمرات السنوية والنشاطات والاحتفالات الضخمة وتدعم بعضها مالياً ما يزيد من ارتباط أنصار ومريدي هذه الطرق بتركيا، ويعزز، بالتالي، النفوذ التركي في الشرق.
أما في أوروبا، فللطرق تأثير على الجالية التركية المهاجرة، حيث تفتتح المدارس وتقدم المساعدات لهم وتبقي على روابط التضامن فيما بينهم وتحافظ على تعلقهم بوطنهم الأم[9]. فتكسب الدولة التركية بذلك موطئ قدم في الدول الأوروبية عبر ربط مهاجريها بالوطن الأم وتعلمهم اللغة التركية وتحافظ على إيمانهم الديني وتضامنهم، فتتحسن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للجالية التركية في أوروبا من ناحية، كما يعمد المتفوقون مادياً ووظيفياً منهم لإنشاء جماعات ضغط لخدمة الدولة التركية وسياساتها الخارجية من ناحية أخرى.
في الخلاصة، إن الطرق الصوفية سلاح قوي للدولة والحكم التركيين. ففي الخارج، تسمح الطرق الصوفية لتركيا في تعزيز نفوذها الإقليمي وإبقاء الراوبط قوية مع المهاجرين من أبناءها. أما في الداخل فللحزب الإسلامي حليف يرفده بكافة أشكال الدعم، وساهم وإياه سابقاً في الانقضاض على العلمانيين الأتراك بكافة الوسائل.
ففي الوقت الذي يمارس الحزب الحاكم العمل السياسي بشكل رسمي ويخفق حيناً ويحقق إنجازات أحياناً أخرى، تبقى الطرق الصوفية كثيرة النفوذ والقدرة في تركيا. وتعمل غالباً في الخفاء وعبر مؤسسات تابعة لها من أجل أسلمة المجتمع والحفاظ على هذه الأسلمة، وذلك بغض النظر عن سياسات الحزب الحاكم الظرفية أو إمكانية بقاءه في الحكم من عدمها.
[1] Fleet K., Suraiya S. & and Kasaba R. (2006), Turkey in the Modern World, Cambridge University Press, Cambridge, pp. 382-384.
[2] اينالجيك خ. (2002)، تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار، ترجمة محمد الأرناؤوط، دار المدار الإسلامي، بيروت، ص. 281-295.
[3] Gozaydin I. (2008), Diyanet and Politics, The Muslim World, Vol. 98, p. 123.
[4] درنيقة م. (1987)، التصوف الإسلامي: الطريقة النقشبندية وأعلامها، جروس برس، طرابلس – لبنان، ص. 88.
[5] بوزرسلان ح. (2009)، تاريخ تركيا المعاصر، المركز الثقافي العربي، أبو ظبي، ص. 65.
[6] هلال ر. (1999)، السيف والهلال تركيا من أتاتورك إلى أربكان: الصراع بين المؤسسة العسكرية والإسلام السياسي، دار الشروق، القاهرة، ص. 109.
[7] نوفل م. (2010)، عودة تركيا إلى الشرق: الاتجاهات الجديدة للسياسة التركية، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، ص. 38-40.
[8] Hürriyet Daily News (2014), 10 maps that explain the global war between Erdoğan and Gülen. Accessed in 12/12/2018, available on: http://www.hurriyetdailynews.com/10-maps-that-explain-the-global-war-between-erdogan-and-gulen.aspx?pageID=238&nID=63342&NewsCatID=338
[9] Balci B. (2015), Le Hizmet de Fethullah Gulen: Quelle place dans l’islam en France et en Europe?, Cairn, N. 4217, p. 30.